هنري ماتيس (Henri Matisse) عاش (1869-1954 م) هو رسّام فرنسي. من كبار أساتذة المدرسة الوحشية (fauvisme)، تفوق في أعماله على أقرانه، استعمل تدريجات واسعة من الألوان المنتظمة، في رسوماته الإهليجية (كانت تُعْنى بالشكل العام للمواضيع، مهملة التفاصيل الدقيقة)، يعتبر من أبرز الفنانين التشكيليين في القرن التاسع عشر.
تطلّع ماتيس في العشرينيات من جديد نحو فن كلود مونيه وأوغيست رونوار، فأنجز سلسلة لوحات تنتمي في ظاهرها إلى الأسلوب الانطباعي، لكنها تفرز في داخلها تزعزُعا وحركية يبعدانها حتما عن المنطق البصري الذي يتحكّم بهذا الأسلوب. وانطلاقا من عام 1935، عمل الفنان بمنهجٍ جديد. إذ عمل مطوّلا على لوحات وصفها “بالاختبارات” وقام بتصوير مختلف مراحل تنفيذها.
Portrait of Madame Matisse (The green line) Fine Copy of Henri Matisse OIL PAINTING ON CANVAS Hand Painted SHIPPING Via EMS |
جدلية الرسم واللون
وفي الأربعينيات أنجز من جديد رسوما حول موضوع التكرار يتجلّى فيها تحرُّر خطّه وتحقيقه تناغما كاملاً بين الشعور المتأتّي بهذا الخطّ وحركيته. أما سلسلة “فضاءات داخلية في مدينة فانس” التي عمل عليها بين عامَي 1946 و1948 فتصالح العلاقة الجدلية بين الرسم واللون من خلال أسلوب نيّر ومُلهَم يظهر على شكل تنويعاتٍ لونية.
ومصدر التكرار لدى ماتيس هو جملة شهيرة للرسام غوستاف كوربيه مفادها أن على الفنان أن يتمكّن دائما من إعادة إنجاز لوحة ما كي يتأكّد من أنها لم تنبثق من حالةٍ ذهنية عابرة أو بالصدفة فحسب. وهذا ما دفع ماتيس إلى تدمير بعض لوحاته وتحقيق بعضها من جديد، بهدف العثور على القوانين التي تتحكّم في عمله.
وفي ظرفٍ شخصي تميّز بتحوّلاتٍ جمالية كبيرة، كالتوق نحو تبسيط الوسائل وتصفية الأشكال والتنميق، بحث الفنان بشكل حدسي عن هذه القوانين في الفكرة الأولى التي تستبق اللوحة وتشكّل الدافع للانطلاق في تحقيقها.
بعبارةٍ أخرى، سعى إلى الإمساك بذلك الإحساس الذي لا يوصَف وينبثق بشكلٍ فوري، من خلال العمل الدؤوب والبطيء والمضني، وبالتالي إلى بلوغ البسيط والجوهري بشكلٍ ملموس، بواسطة مقاربة تشكيلية تقوم على التفكيك التدريجي لحبكة اللوحة.
ومع الوقت، حلّ ماتيس تدريجيا تلك الازدواجية (بين اللوحة الإعدادية واللوحة المنجَزة) داخل عملٍ واحدٍ يتميّز بطبقاتٍ متعاقبة عمد إلى تصويرها فوتوغرافيا للحفاظ على أثرٍ ضروري للخطوات الأولى ولمختلف مراحل الاختبار.
إعادة الصياغة
وحول هذا الموضوع، قال “يتحلّى ردّ فعلي في إحدى مراحل إنجازي لوحة ما بنفس الأهمية التي يتحلّى بها موضوع هذه اللوحة، لأن رد الفعل هذا ينطلق منّي وليس من الموضوع. ففي كل مرحلة أتمتّع بتوازنٍ خاص وخلاصةٍ خاصة. وفي حال شعوري في إحدى هذه المراحل بضعف في تشكيلتي، أعود إلى اللوحة من باب هذا الضعف، من خلال هذه الفجوة، وأعيد صياغة كل شيء فيها”.
وتجسّد عملية تصويره الفوتوغرافي لعمل التصفية هذا، أو لجُهد البحث عن الشكل الصائب، فكرة الصيرورة في الابتكار وتجعلها مرئية، كما تقود بشكلٍ غير محسوس إلى مفهوم الحركة الذي قارنه الفنان بمفهوم الآلية، آلية اختبارٍ مُكتسَب بعمق ويُسيّر اللاوعي.
في توجهه الفني نظر ماتيس باستمرار إلى الوراء للتقدّم، وتبلور فنه ضمن حركة ذهاب وإياب مستمرة بين عناصر لوحتَين متشابهتين، أو بين الحالة الراهنة للوحةٍ ما وحالاتها السابقة. وبدلا من السعي خلف العفوية، سعى إلى إظهار الجهد الإعدادي الكبير الذي يتطلّبه بلوغها. ففي نظره، فقط حين يمرّ تملّك الوسائل من الوعي إلى اللاوعي، بواسطة العمل الدؤوب، يتمكّن الفنان في لوحاته من منح ذلك الانطباع بالعفوية.